الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولا يخفى أن كل مترجح فهو محكوم بتأخره اجتهادًا فيكون المعمول عليه في الحكم حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وقول المخالف: إن المراد بالمحصن فيه المحصن الذ يقتص له من المسلم خلاف الظاهر لأن أكثر استعمال الاحصان في إحصان الرجم.ورد بعضهم بالآية على القائلين: إن حد زنا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة وهم الإمام الشافعي والإمام أحمد والثوري والحسن بن صالح، ووجه الرد أن قوله تعالى: {الزانية والزانى} الخ شروع في بيان حكم الزنا ما هو فكان المذكور تمام حكمه وإلا كان تجهيلًا لا بيانًا وتفصيلًا إذ يفهم منه أنه تمام وليس بتمام في الواقع فكان مع الشروع في البيان أبعد من البيان لأنه أوقع في الجهل المركب وقبله كان الجهل بسيطًا فيفهم بمقتضى ذلك أن حد الزانية والزاني ليس إلا الجلد، وأخصر من هذا أن المقام مقام البيان فالسكوت فيه يفيد الحصر، وقال المخالف: لو سلمنا الدلالة على الحصر وأن المذكور تمام الحكم ليكون المعنى أن حد كل ليس إلا الجلد فذلك منسوخ بما صح من رواية عبادة بن الصامت عنه صلى الله عليه وسلم: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» وأجيب بأنه بعد التسليم لا تصح دعوى النسخ بما ذكر لأنه خبر الواحد وعندنا لا يجوز نسخ الكتاب به؛ والقول بأن الخبر المذكور قد تلقته الأمة بالقبول لا يجدي نفعًا لأنه إن أريد بتلقيه بالقبول إجماعهم على العمل به فممنوع، فقد صح عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه لا يقول بتغريبهما وقال حسبهما من الفتنة أن ينفيا، وفي رواية كفى بالنفي فتنة، وإن أريد إجماعهم على صحته بمعنى صحه سنده فكثير من أخبار الآحاد كذلك ولم تخرج بذلك عن كونها آحادًا، على أنه ليس فيه أكثر من كون التغريب واجبًا ولا يدل على أنه واجب بطريق الحد بل ما في صحيح البخاري من قول أبي هريرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد ظاهر في أن النفي ليس من الحد لعطفه عليه، وكونه استعمل الحد في جزء مسماه وعطف على الجزء الآخر بعيد فجاز كونه تعزيرًا لمصلحة، وقد يغرب الإمام لمصلحة يراها في غير ما ذكر كما صح أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه غرب نصر بن حجاج إلى البصرة بسبب أنه لجماله افتتن بعض النساء به فسمع قائلة يقال: إنها أم الحجاج الثقفي ولذا قال له عبد الملك يومًا با ابن المتمنية تقول:
والقول بأنه لا يجتمع التعزيز مع الحد لا يخفى ما فيه.وادعى الفقيه المرغيناني أن الخبر المذكور منسوخ فإن شطره الثاني الدال على الجمع بين الجلد والرجم منسوخ كما علمت؛ وفيه إنه لا لزوم فيجوز أن تروى جمل نسخ بعضها وبعضها لم ينسخ، نعم ربما يكون نسخ أحد الشطرين مسهلًا لتطرق احتمال نسخ الشطر الآخر فيكون هذا الاحتمال قائمًا فيما نحن فيه فيضعف عن درجة الآحاد التي لم يتطرق ذلك الاحتمال إليها فيكون أحرى أن لا ينسخ ما أفاده الكتاب من أن الخد هو الجلد لا غير على ما سمعت تقريره فتأمل.ثم إن التغريب ليس خصوصًا بالرحل عند أولئك الأئمة فقد قالوا: تغرب المرأة مع محرم وأجرته عليها في قول وفي بيت المال في آخر، ولو امتنع ففي قول يجبره الإمام وفي آخر لا، ولو كانت الطريق آمنة ففي تغريبها بلا محرم قولان، وعند مالك.والأوزاعي إنما ينفي الرجل ولا تنفي المرأة لقوله عليه الصلاة والسلام: «البكر بالبكر» الخ، وقال غيرهما ممن تقدم: إن الحديث يجب أن يشملها فإن أوله «خذوا عني قد جعل الله تعالى لهن سبيلًا البكر البكر» الخ وهو نص على أن النفي والجلد سبيل للنساء والبكر يقال: على الأنثى ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام: «البكر تستأذن» ومع قطع النظر عن كل ذلك قد يقال: إن هذا من المواضع التي تثبت الأحكام فيه في النساء بالنصوص المفيدة اياها للرجال بتنقيح المناط، هذا ثم لا يخفى أن الظاهر من {الزانية والزانى} ما يشمل الرقيق وغيره فيكون مقدار الحد في الجميع واحدًا لكن قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] الآية أخرجت الإماء فإن الآية نزلت فيهن، وكذا أخرجت العبيد إذ لا فرق بين الذكر والأنثى بتنقيح المناط فيرجع في ذلك إلى دلالة النص بناء على أنه لا يشترط في الدلالة أولوية المسكوت بالحكم من المذكور بل المساواة تكفي فيه وقيل تدخل العبيد بطريق التغليب عكس القاعدة وهي تغليب الذكور.ولا يشترط الإحصان في الرقيق لما روي مسلم وأبو داود والنسائي عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن ومن لم يحصن» وفيه دليل على أن الشرط أعني الاحصان في الآية الدالة على تنصيف الحد لا مفهوم له، ونقل عن ابن عباس وطاوس أنه لا حد على الأمة حتى تحصن بزوج، وفيه اعتبار المفهوم، ثم هذا الإحصان شرط للجلد لأن الرجم لا يتنصف، وللشافعي في تغريب العبد أقوال: يغرب سنة، يغرب نصف سنة، لا يغرب أصلا والخطاب في قوله تعالى: {فاجلدوا} لأئمة المسلمين ونوابهم.واختلف في إقامة المولى الحد على عبده فعندنا لا يقيمه إلا بإذن الإمام؛ وقال الشافعي ومالك وأحمد يقيمه من غير اذن، وعن مالك إلا في الأمة المزوجة، واستثنى الشافعي من المولى الذمي والمكاتب والمرأة، وكذا اختلف في إقامة الخارجي المتغلب الحد فقيل يقيم وقيل لا، وأدلة الأقوال المذكورة وتحقيق ما هو الحق منها في محله.والظاهر أن إقامة الحد المذكور بعد تحقق الزنا بإحدى الطرق المعلومة، وقال اسحق: إذا وجد رجل وامرأة في ثوب واحد يجلد كل واحد منهما مائة جلدة وروي ذلك عن عمر وعلى رضي الله تعالى عنهما، وقال عطاء والثوري ومالك وأحمد: يؤدبان على مذاهبهم في الأدب {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} تلطف ومعاملة برفق وشفقة {فِى دِينِ الله} في طاعته وإقامة حده الذي شرعه عز وجل، والمراد النهي عن التخفيف في الجلد بأن يجلدوهما جلدًا غير مؤلم أو بأن يكون أقل من مائة جلدة.وقال أبو مجلز ومجاهد وعكرمة وعطاء: المراد النهي عن إسقاط الحد بنحو شفاعة كأنه قيل: أقيموا عليهما الحد ولابد، وروي معنى ذلك عن ابن عمر.وابن جبير، وفي هذا دليل على أنه لا يجوز السفاعة في إسقاط الحد، والظاهر أن المراد عدم جواز ذلك بعد ثبوت سبب الحد عند الحاكم، وأما قبل الوصول إليه والثبوت فإن الشفاعة عند الرافع لمن اتصف بسبب الحد إلى الحاكم ليطلقه قبل الوصول وقبل الثبوت تجوز، ولم يخصوا ذلك بالزنا لما صح أنه عليه الصلاة والسلام أنكر على حبه أسامة بن زيد حين شفع في فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد المخزومية السارقة قطيفة، وقيل حليًا فقال له: «أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟ ثم قام فخاطب فقال: أيها الناس إنما ضل من قلبكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله تعالى لو أن فاطمة بنت محمد سرقت وحاشاها لقطعت يدها» وكما تحرم الشفاعة يحرم قبولها فعن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا بلغ الحد إلى الإمام فلا عفا الله تعالى عنه إن عفا، و{بِهِمَا} قيل متعلق بمحذوف على البيان أي أعني بهما، وقيل بترأفوا محذوفًا أي ولا ترأفوا بهما، ويفهم صنيع أبي البقاء اختيار تعلقه بتأخذ والباء للسببية أي ولا تأخذكم بسببهما رأفة ولم يجوز تعلقه برأفة معللا بأن المصدر لا يتقدم معموله عليه، وعندي هو متعلق بالمصدر ويتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيره.وقد حقق ذلك العلامة سعد الملة والدين في أول شرح التلخيص بما لا ميزد عليه، و{فِى دِينِ} قيل متعلق بتأخذ وعليه أبو البقاء، وقيل متعلق بمحذوف وقع صفة لرأفة.وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والسلمي وابن مقسم وداود بن أبي هند عن مجاهد {وَلاَ} بالياء التحتية لأن تأنيث {بِهِمَا رَأْفَةٌ} مجازي وحسن ذلك الفصل.وقرأ ابن كثير {رَأْفَةٌ} بفتح الهمزة، وابن جريج {رءافة} بألف بعد الهمزة على وزن فعالة وروي ذلك عن عاصم وابن كثير، ونقل أبو البقاء أنه قرأ {بِهِمَا رَأْفَةٌ} بقلب الهمزة ألفًا وهي في كل ذلك مصدر مسموع إلا أن الأشهر في الاستعمال ما وافق قراءة الجمهور.{إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} من باب التهييج والإلهاب كما يقال: إن كنت رجلًا فافعل كذا ولا شك في رجوليته وكذا المخاطبون هنا مقطوع بإيمانهم لكن قصد تهييجهم وتحريك حميتهم ليجدوا في طاعة الله تعالى ويجتهدوا في إجراء أحكامه على وجهها، وذكر {اليوم الآخر} لتذكير ما فيه من العقاب في مقابلة الرأفة بهما {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ المؤمنين} أي ليحضره زيادة في التنكيل فإن التفضيح قد ينكل أكثر من التعذيب أو لذلك وللعبرة والموعظة، وعن نصر بن علقمة أن ذلك ليدعي لهما بالتوبة والرحمة لا للتفضيح وهو في غاية البعد من السياق، والأمر هنا على ما يدل عليه كلام الفقهاء للندب.واختلف في هذه الطائفة فاخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عباس أنه قال: الطائفة الرجل فما فوقه وبه قال أحمد، وقال عطاء وعكرمة واسحق بن راهويه: إثنان فصاعدًا وهو القول المشهور لمالك، وقال قتادة والزهري: ثلاثة فصاعدًا، وقال الحسن: عشرة، وعن الشافعي وزيد: أربعة وهو قول لمالك، قال الخفاجي: وتحقيق المقام أن الطائفة في الأصل اسم فاعل مؤنث من الطواف الدوران أو الإحاطة فهي أما صفة نفس أي نفس طائفة فتطلق على الواحد أو صفة جماعة أي جماعة طائفة فتطلق على ما فوقه فهي كالمشترك بين تلك المعاني فتحمل في كل مقام على ما يناسبه.وذكر الراغب أنها إذا أريد بها الواحد يصح أن تكون جمعًا كني به عن الواحد ويصح أن تكون مفردًا والتاء فيها كما في رواية، وفي حواشي العضد للهروي يصح أن يقال للواحد طائفة ويراد نفس طائفة فهي من الطواف بمعنى الدوران.وفي شرح البخاري حمل الشافعي الطائفة في مواضع من القرآن على أوجه مختلفة بحسب المواضع فهي في قوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] واحد فأكثر واحتج به على قبول خبر الواحد وفي قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ} [النور: 2] أربعة وفي قوله سبحانه: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ} [النساء: 102] ثلاثة، وفرقوا في هذه المواضع بحسب القرائن، أما في الأولى فلأن الانذار يحصل به، وأما في الثانية فلأن التشنيع فيه أشد، وأما في الثالثة فلضمير الجمع بعد قوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] وأقله ثلاثة، وكونها مشتقة من الطواف لا ينافيه لأنه يكون بمعنى الدوران أو هو الأصل وقد لا ينظر إليه بعد الغلبة فلذا قيل: إن تاءها للنقل انتهى ولا يخلو عن بحث.والحق أن المراد بالطائفة هنا جماعة يحصل بهم التشهير، والزجر وتختلف قلة وكثرة بحسب اختلاف الأماكن والأشخاص فرب شخص يحصل تشهيره وزجره بثلاثة وآخر لا يحصل تشهيره وزجره بعشرة، وللقائل بالأربعة هنا وجه وجيه كما لا يخفى. اهـ. .قال ابن عجيبة: الإشارة: التقوى أساس الطريق، وبها يقع السير إلى عين التحقيق. فمن لا تقوى له لا طريق له، ومن لا طريق له لا سير له، ومن لا سير له لا وصول له. وأعظم ما يتَقي العبدُ شهوةَ الفروج، فهي أعظم الفتن وأقبح المحن، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «ما تَرَكْتُ بَعْدِي أضَرّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وعن حذيفة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا معشر الناس اتقوا الزنا، فإن فيه ستَّ خصال: ثلاثًا في الدنيا، وثلاثًا في الآخرة: فأما اللاتي في الدنيا؛ فيُذهب البهاء، ويورثُ الفقرَ، وينْقُصُ العمرَ، وأما اللاتي في الآخرة؛ فيوجب السخطَة وسوءَ الحسابِ والخلودَ إلى النار» والمراد بنقص العمر: قلة بركته، وبالخلود: طول المكث. وفي حديث آخر: «إن أهل النار ليتأذون من نتن فروج الزناة والزواني»، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أعمال أمتي تُعرض عليَّ في كل جمعة مرتين، فاشتد غضب الله على الزناة» وقال وهب بن منبه: مكتوب في التوراة: الزاني لا يموت حتى يفتقر، والقواد لا يموت حتى يعمى.وفي بعض الأخبار القدسية: «يقول الله عز وجل: أنا الله لا إله إلا أنا، خلقت مكة بيدي، أُغني الحاج ولو بعد حين، وأُفقر الزاني ولو بعد حين، هذا وباله في الدنيا والآخرة، وأما في عالم البرزخ؛ فتُجعل أرواحهم في تنوير من نار، فإذا اشتعلت عَلَوْا مع النار، وإذا خمدت سقطوا إلى أسفلها، هكذا حتى تقوم الساعة» كما في حديث البخاري. وقال ابن رشد: ليس بعد الشرك أقبح من الزنا؛ لِما فيه من هتك الأعراض واختلاط الأنساب، ومن تاب فإن الله يتوب على من تاب. وبالله التوفيق.وقوله تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله}: قال في الإحياء: في الحديث: «خيار أمتي أَحِدَّاؤُهَا» يعني: في الدين؛ قال تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة} فالغيرة على الحُرَمِ، والغضب لله وعلى النفس، بكفها عن شهوتها وهواها، محمود، وفَقْدُ ذلك مذمومٌ. اهـ. وبالله التوفيق. اهـ.
|